[align=center]"الكلاسيكية".. عبادة العقل! [/align]-
----------------------------------------------------------------
كلمات تتردد هنا وهناك عن الفن ومدارسه، لا يعرف الكثيرون معناها ولا تطبيقها، حتى يصير الفن في كثير من الأحيان، خصوصًا الفن التشكيلي، وكأنه درب من الجنون أو فراغ الذهن، مع أن متابعة تطورات المدارس الفنية واتجاهاتها وظروف نشأتها، تكشف عن سجل حافل من تاريخ البشرية، وتغيرات المجتمع الفكرية والثقافية والاجتماعية مسجلة ومرصودة بأيدي الفنانين، وتعكس المدارس الفنية حالة المجتمع وأفكاره في كل مرحلة من مراحلها.
فالمدرسة "الكلاسيكية" هي التي عاصرت الثورة الفرنسية (1793م) وتبنت تلك المدرسة التعبير عن شعار الثورة الأشهر "العدل - الحرية - المساواة"، هكذا تقول عنها الكتب، لكن الأعمال الفنية الكلاسيكية نفسها تعكس مجموعة من القيم والمفاهيم، ربما لا تتوافق مع شعار الثورة الفرنسية الذي اتخذته المدرسة الكلاسيكية شعارًا لها.
فمن خصائص الأعمال الفنية في هذه المدرسة أن يسود العقل حتى يصبح هو المعبود، وذلك على اعتبار أن غايتها القصوى تتمثل في تجسيد الجمال في جوهره الخالص المجرد، دون ترك أي بُعد للغيب أو الخيال في هذا التعبير الفني.
فمثلاً تتميز أعمال المدرسة الكلاسيكية بتحويل صور الطبيعة إلى قيم زخرفية وأشكال هندسية، فالجمال فيها هو جمال هندسي يخضع لأحكام العقل لا الخيال. فهو جمال هندسي يستخدم الخطوط الحادة والبناء المحكم.
أيضًا من خصائص المدرسة الكلاسيكية ازدراء اللون، فلا تجد في الأعمال الكلاسيكية تعبيرًا بمساحات لونية كبيرة أو علاقات لونية متداخلة، لكن تجد زخرفة مبنية أساسًا على الخط والتصميم الهندسي المحكم، وتوازن الكتلة مع فخامة التكوين.
لذلك تبرز أهم عيوب المدرسة الكلاسيكية في إطارها الضيق الذي يحول كل أشكال التعبير إلى أشكال هندسية، وهو ما يتناقض مع حب التعبير عن الحياة النابضة في شتى صورها، كما يؤكد الفنانون الكلاسيكيون في أعمالهم بهذا الأسلوب الهندسي على إعلاء شأن العقل على حساب الروح والإحساس والخيال، وهو أمر قد يتناقض -ولو ظاهريًّا- مع شعار الثورة الفرنسية الذي كانت الكلاسيكية تعبيرًا حيًّا عنه، لكنه يتفق مع مضمون تلك الثورة وسلوكها الذي تبنى فكرة علمنة الدين وفصله عن الحياة وتحويله لعبادات فردية داخل أماكن العبادة، أما الحياة فيحكمها العقل وحده وتسانده المصلحة.. هكذا قالوا!
أهم فنانيها
ومن أشهر فناني هذه المدرسة المصور "جاك لويس دافيد" فقد كان من بين أعضاء محكمة الثورة التي قضت بالإعدام على الملك "لويس السادس عشر" فأصبح بعد ذلك مصور الثورة الرسمي، وقد تجلَّت النزعة الكلاسيكية في لوحة له تتسم بالرصانة ويتعلق موضوعها بواقعة وطنية من تاريخ الرومان وهي لوحة "يمين الإخوة هوراس".
وقد عمل دافيد على إحياء تقاليد الفن الروماني فقد كان التكوين في لوحاته يعتمد على قواعد هندسية صارمة؛ فكان الخط وليس اللون موضع اهتمامه، وقد أنشأ دافيد "أكاديمية الفنون" التي كانت ممثلاً للذوق الرسمي للثورة الفرنسية وحاربت جميع الحركات الفنية الجديدة.
وبعد وفاة دافيد تولى تلميذه "جان دومينيك أنجر" زعامة الكلاسيكية في فرنسا وبالرغم من اتفاق أنجر مع المبدأ الكلاسيكي اتفاقًا تامًا في ازدراء اللون، والاعتماد على الخط والتصميم الهندسي المحكم، إلا أنه كان هناك اختلاف أساسي بينه وبين أستاذه؛ فقد كانت الهندسة عند دافيد هندسة "محسوبة" على حين أنها عند أنجر هندسة "محسوسة".
وكان الفنان الإسباني فرانسيسكو جويا معاصرًا لدافيد، وكان ثوريًا مثله، ولكنه كان نقيضه فبقدر ما كان دافيد متزمتًا في فنه يزدري التعبير عن المشاعر والأحاسيس، كان جويا يتخذ من الفن وسيلة للتعبير عن أعمق مشاعره الذاتية، وبقدر ما كان دافيد يعتمد على الهندسة والحساب والقواعد الصارمة كان فن جويا يعتمد على إلهام اللحظة؛ وهو ما يعني أن جويا كان يتململ من الكلاسيكية ويخرج في بعض الأحيان عن إطارها المادي.
مثال من جويا
في هذه اللوحة "السجين" يعبر جويا عن خصائص الكلاسيكية وفق طريقته، فهو يعتمد على تركيز الكتلة في قلب اللوحة (الرجل المقيد)، ويكرّس معاني كبت الحرية والقهر باستخدام الزوايا الحادة والخطوط المباشرة في تحديد معالم جسد الرجل المقيد، ولا يترك مساحة في اللوحة للتعبير الحر من المتلقي، بل يقدم تعبيره عن القيد في شكل هندسي مباشر، دون علاقات لونية مركبة، بل اللوحة عبارة عن خلفية في قلبها الموضوع مباشرة (رجل يجلس مكبلاً بالقيود)
لوحة "موت مارات"
هذه اللوحة للفنان جاك لويس دافيد مصور الثورة الرسمي فلنتتبع خصائص المدرسة الكلاسيكية فيها:
1 - إزراء اللون: اعتمد على الظلل والنور في إبراز الجسد والأشياء المحيطة به وكأن هناك ضوء مسلط من وراء الميت لإظهاره وشد الانتباه إليه والتركيز عليه فساعد في إظهار هذا الضوء الخلفية القائمة ثم أخذ دافيد في تصفيف حدة القتامة في الجزء الأسفل من الميت واستخدم الضوء بشدة في الساعد ليجذب الانتباه بعد ذلك إلى الرسالة الموجودة في يده وهنا نرى خاصية أخرى من خصائص المدرسة وهي.
2 - الخطوط الحادة:
ترى الرسالة التي في يد الميت والموجودة على المنضدة تعطي إحساس أنها مصنوعة من ورق مقوى فهي جامدة وحتى القماش سواء الأبيض أو الأزرق الداكن يعطي إحساسًا بالجمود والصرامة والحدة وهذا يتنافى مع طبيعة القماش اللينة المرنة وطبيعة الورق فنرى صفات الحدة والصرامة والجمود طاغية على طبيعة الأشياء.
3 - تجسيد الجمال دون ترك بعد للشعور:
يتجلى هذا في جسد الميت فلقد اهتم الفنان بإظهاره بكل تفاصيله وحيويته وكأنه جسد لشخص حي مستند برأسه إلى الخلف مستسلمًا للأفكار.
واهتم بإظهار براعته ودقته في التصوير على حساب إعطاء الإحساس بالموت وإنما عبر عنه بالجرح الصغير في الصدر والسكينة الملقاة على الأرض والدم فلا نحس بالاسترخاء التام والسكون الذي يصحب الموت ولكن كل العضلات مشدودة ومنقبضة
Bookmarks